إسراء الصاوي

قصص و روايات

عيني عليك ياجدو


جدو "شبراوي" رجل عجوز، فشعره أبيض جداً وظهره محدب قليلاً لا يستوي إلا بعصا يتكأ عليها أحياناً، لا تظهر ملامحه وجهه من كثرة ما انتابه من تجاعيد. لكنه طيب القلب حنون ولا يحب أن يعصى لجدتي أمراً ؛ لحبه الشديد لها، رغم شدته عليه ، فهي تارة تقسو وتارة تحنو عليه. فهي ممتلئة الجسد وتسبقها بطنها للإمام وقليلة الطول، كل أمر يحدث في البيت تلقي به على عاتق جدي.

أختي " بثينة" في العاشرة من عمرها ، نحيفة جداً وتزينها ضفائرها المائلة على الجانبين المتدلية على صدرها. تذهب كل يوم للعب مع جيراننا فوق سطح المنزل. ذات يوم أخبرت جدتي برغبتها في اللعب وبختها ، فذهبت لجدي وهي تبكي ، فأهدئها وأخبرها بأن تذهب وتعود قبل عودة جدتي وأمي من السوق، لسوء الحظ عادت جدتي باكراً في هذا اليوم ، لم تجد أختي فثارت وصرخت في وجه جدي ، وما أن رأى ذلك حتى انكمش في نفسه خوفاً وكمداً في ذلك الوقت، وعندما عادت أختي لاقت من الصريخ الكثير.

في اليوم التالي دخلت جدتي وأنا أجلس مع جدي نضحك ونمرح ، زمجرت وطالبت جدي بالذهاب للنوم ، حيث مرضه وخطر عليه السهر والجلوس متأخراً. توسل إليها بأن يجلس معنا ليداعبنا رفضت ذلك. ظللت أردد أنا وأختي: عيني عليك يا جدو..

وسألتني أختي سبب معاملة جدتي لجدي بهذا الأسلوب لم نلق جواباً، فقررنا أن نسأل أمي، فأجابتنا أن من شدة احترام جدي لجدتي ، فهو يخشى غضبها وحزنها، فأخبرت أمي أن الحب عطاء وتبادل من المشاعر الفياضة والأحاسيس بين الاثنين، وليس معنى أن أياً من الطرفين يحترم الآخر أن يتعالى عليه الطرف الآخر أو يعتبر ذلك ضعفاً فيزداد في عناده وكبريائه.

أجابتني أمي ، أنه في الحب يخشى الطرفان إغضاب الآخر ، فيحاول كلاً منهما التنازل عن أشياء قد يحبها لكن لإرضاء الطرف الثاني.

أجبتها بأن الحب تغليف وإطار عظيم لكرامة وكبرياء ورغبات الفرد وأن على كل طرف احترام رغبات الآخر، لأنها المفتاح ، لاحترام الآراء والأفكار بعد ذلك، و إلا لو تنازل كلاً منهما عما يحبه إرضاءَ لأي طرف ، فإنه مؤكداً سيتنازل بعد ذلك عن مبادئه وأفكاره إرضاءَ له أيضاً وهذا لا يسمى حباً بل تملكاً وضعفاً، وذلك هو المفهوم الخاطئ عن الحب.

أجبتني أمي أنني مازالت صغيرة لا أفهم شيئاً، حاولت أن أفهما المعنى الحقيقي للحب ، رفضت ونصحتني بالمذاكرة ، ذهبت لجدي لأفهم منه المعنى الحقيقي للحب ، فكان ذا صدر رحب.

- قل لي جدو ، ما هو المعنى الحقيقي للحب؟
- ابتسم وتنهد قائلاً: آآآآآآآه...... الحب.... الحب كلمة عظيمة وفعل أعظم ، يخسر من لم يتذوقه.
- ابتسمت وأنا ممسكة بيده: لا أفهم.... ما معناه الدقيق؟
- اسمعي يا رويدا يا بنتي.. الحب هو عطاء وتضحية وكرامة ورفعة وعزة ويأخذ الإنسان من عالم الظلمات والضلال لعالم النور والهداية، يهدي كل ضال، هو احترام للطرف الآخر وتقديراً له وإعزازاً لكرامته.
- هل تعني أنه على أياً من الطرفين التنازل عما يريد إرضاءَ للآخر؟
- ابتسم: لا يا بنتي... من قال ذلك؟ أنا ذكرت عطاء الحب وتضحيته، فهو يحث على احترام الرغبات والآراء والأفكار والمبادئ وطريقة العيش، لكنه أحياناً يريد من يدلعه وأن يشعر بذاته وبالعاشقين ، هل يوظفونه حقيقة أم لا؟
- اندهشت: كيف يا جدي؟
- يعني... هناك أمور في الحياة لا بد من الاتفاق عليها بين الطرفين لا يصح أن يتعنت كل طرف ويتمسك بها لمجرد الاعتزاز ، لا بد من إعلاء كلمة الحوار بينهما، للتوصل لجوهر الحب الحقيقي، مثلاً: عندما يتقدم لكِ عريس وأثناء التجهيز للوازم العرس،لابد من اتفاقكما على أشياء أساسية به وإن اختلفتما ، فلابد أن يكون اختلافاً بسيطاً محترم. أي لا تتشددي أمام شئ ترينه صحيحاً هو يراه غير ذلك وكذلك هو أيضاً ، لأن هذا ليس مبرراً للتعنت والتشدد واختلاق المشكلات، كذلك في لوازم البيت ، هناك من المشكلات ما يحدث وكذلك الأمور المادية، لا بد أن تتعلمي كيف تديري الأزمات دون مشادات ومشاكل.
- حسناً.... ماذا عني؟ يعني لو أنني أحببت شيئاً وأردته وهو غير راضِ عنه.... ماذا أفعل؟
- أولاً... عليه احترام ما ترغبين طالما لا ينقص منه ولا من رجولته ، لكن يمكنك بالحوار الهادئ والحكمة الحصول على ما تريدين ، يعني... إن رغبت في شراء شي ما أو الذهاب لمكان ما وهو غير راضِ، لا تغضبي أو تثوري وتعتبري ذلك تعنتاً منه ، لكن اسأليه واستفسري بهدوء شديد عن سبب الرفض أو المعارضة، واعلي من وجهة نظره وقيمته ، يعني عندما تسأليه رددي عليه ، أوضح لي .. ربما أكن مخطئة، أشعريه بأنكِ ممكن تخطئ وممكن تكونين على صواب، تبادلي معه الرأي ووجهة النظر ، إن اقتنعتِ ستمر الأمور بسلام وإن لم تقتنعِ أخبريه بأنكِ ستفكرين في رأيه ، لكن لابد من إعطائه مساحة لكِ للفكر والتفكير والثقة لتجربي بنفسك الأشياء وإن أخطأتِ فليصفح عنك وليعلم أن الإنسان لا يتعلم إلا بالتجربة وليس بالنصيحة أو الانصياع، وأخبريه أننا نعيش في دائرة التجارب وأن لكلِ منكما رغبات يريد إشباعها بالطرق التي يرى أنها مناسبة بالنسبة أليه وامدحي فكره ونصيحته.اطلبي منه أن يمهلك الفرصة لتجربي الأشياء بذاتك، لكن لا تثوري وتثيري حفيظته، هذا إن أعطاكِ سبباً لرفضه ومعارضته.
- ماذا إن لم يكن هناك سبباً؟
- في هذه الحالة ... انتظري... إن تكرر فعله هذا في كل موقف ودون مبرر أو سبب يُذكر ، فاعلمي أنه يريد فرض السيطرة والتحكم والقضاء على شخصيتك وفكرك وثقافتك ويريد إن يُثبت لنفسه أنه الأقوى وليس بعد شيئاً.
- لكن هل من حق أحدهما الصياح في وجه الآخر والتهكم منه؟
- ابتسم قائلاً: لا بالطبع.... لابد من التروي والاحترام واعلمي أن الحوار المحترم هو سبيل السعادة الزوجية ، لأنه يقوم على التفهم لمشاعر وأفكار ورغبات الطرف الآخر. لكن عقبات الحياة ومشكلاتها وتسلط الماديات في أحياناً كثيرة قد يسبب توتراً وقلقاً لدى البعض، فيجد نفسه يصيح ويغضب دون مبرر، لكن المحب الواعِ هو من يعبر بنفسه تلك الأزمات وإعادة السفينة لمجراها الطبيعي.
- هل معنى هذا أن على الزوجة التحمل والتنازل عن كرامتها وكبريائها لتتحمل الزوج؟
- سكت قليلاً ثم قال: لا يا رويدا .... هذا لا يعني أن المرأة ضعيفة أو دون كرامة، لأن المرأة نفسها تغضب في أحياناً كثيرة على الرجل وليس معني أن تتحمل أنها تتنازل عن كرامتها، لأنها تعلم مدي الحب الذي يكنه لها زوجها وأن سبب الغضب هو مشاكل الحياة المعنوية قبل المادية، ربما تغضب قليلاً، لكن سرعان ما تصفو عندما يداعبها زوجها وعليها الاقتراب منه ومعرفة ما يؤذيه والحياة مليئة بالتنازلات التي لا تؤثر على الحياة لكلِ منهما، ولست أعني الكبرياء أو الكرامة، لأنه لا شئ يعلي عليهما فلا حب بدون كرامة أو كبرياء لأنه الأساس فيها ، وحب بدون كرامة ، كصورة بلا إطار. واعلمي أن تنازل أياً من الطرفين فهو بمحض إرادتهما، يعني.... لا يجبرك على التنازل ولا أنتِ، لأن الخالق عزوجل أعطي لنا الخيار في كل شئ حتى العقيدة ، فكيف لبشر يجبر بشراً مثله، واعلمي إن تنازلتِ مرة فستتنازلين مليون مرة عن أشياء هامة في حياتك، ويا رويدا إن أردتِ تغيير نفسك فمن أجلك ليس من أجل أحد، لأنك عندما تغيرين ذاتك من أجل شخص ، فسرعان ما تعودين للوراء بأسوأ ما يكون عندما تنشب المشكلات بينكما لأنك لم تكن لديك الرغبة من داخلك ، بل إرضاءً له،وكذلك بالنسبة له، لأنك بعد ذلك لن تستطيعين التحاور معه بعد ذلك.
- أنت أرحتني كثيراً يا جدي. وعلمتني أشياءَ وعرفت اليوم أنني الأصح وكل من حولي هم الخطأ.
- لا يا بنتي... كوني أنتِ لا غيرك ولا تدعِ أحد يؤثر على شخصيتك وفكرك واعلمي دوماً أنه مثلما خلقت فهناك المكمل لكِ وأن الظن الحسن بالله هو من خير الأمور ومفتاح الحياة والمستقبل القادم. ولا تتنازلي عن حبك وكرامتك وأفكارك ومبادئك مهما كان من الأمر.
- لكن..... ما سبب شجار جدتي معك إن كان هناك حب بينكما؟
- ضحك كثيراً: هذا هو الحب.... لابد من وجود بهارات ومكسبات الطعم والراحة والمشاكسات ليستمر، جدتك من أعظم الفتيات التي أحببتها وكانت حياتنا هادئة رغم عصبيتها الشديدة ، لكنها طيبة القلب وحنونة ، فتعاملت بروية معها وحكمة ، فليس من المعقول ن أضيع حب سنوات وصفات امرأة عظيمة لمجرد صفة واحدة سيئة ، إذ لابد من النظر للايجابيات والتعامل مع السلبيات بحكمة. والحب ليس كله رومانسية وهدوء ، بل لابد له من عاصفة تأتي ، لتعلمي مدى الحب الذي تكنيه له والذي يكنه لكِ وهل يقوى كلاً منكما على الثبات أمم هذه العاصفة أم لا؟ فهذه العواصف هي الشئ الدال على الحب. وإن لم تستطعِ التعامل مع السلبيات فالجلوس على مائدة الحوار أفضل سبيل للحل السلمي.
- ماذا عن الغيرة؟
- موجود طبعاً... لكن بمقدار ، فإن زاد انقلب لشكِ ودمار، لكن لابد من وجوه ، ليشعر الرجل برجولته ولتشعري أنتِ بالحب، لأن الغيرة تعني الحب والتقدير والخوف من عيون الذئاب الحاقدين وليس معناه عدم الثقة ، فهناك فرق كبير جداً بين الاثنين وخيط رفيع بينهما أيضاً.
- وما الفرق يا جدي؟
- الغيرة كما ذكرت لكِ،وتعطيكِ قدر من الحرية واحترام النفس والآخرين . أما عدم الثقة فهي صغرك في نظره وتقييداً لحريتك ويشعرك بأنك غير جديرة بثقته وغير مؤهلة لها، واعلمي إن شعر الرجل بثقته الكاملة في ذاته فسينقلها إليكِ ويعطيك قدراً كبير من الحرية وأمات إذا كان مفتقدها فسيسبها منك ، لأنه فاقد الشئ لا يعطيه. وسيصبح الشك هو الميزة الأساسية فيه، فحافظي على ثقته لأنك إن فقدتيها فمن الصعب جداً استردادها.

ولم نستكمل الحديث ، إلا وبجدتي تدخل ومعها رياح الشتاء والغضب يعتلي وجهها ، فن؟ر لي جدي وضحك وذهب ليتناول الطعام ووعدني باستكمال الحديث في يومِ آخر تكون جدتي فيه غير موجودة بالمنزل.
‏29‏/04‏/2011



اضيف بتاريخ: Monday, January 3rd, 2022 في 00:03

كلمات مجلة أدب: , , ,

تواصل مع المؤلف

رسالتك:
اسمك المستعار:

بريدك الالكتروني:

ادخل حاصل جمع 0 + 0 بالاسفل:
 

شارك بالتعليق الآن