اعتصر ياقة معطفه بقوة فالجو فى تلك الليلة شديد البرودة، لمح بنظرة خاطفة حقيبة ملابسه الممددة بجوار قدمه، اطمئن لوجودها؛ فقد ارهقته فى ترتيبها الليلة الماضية، رتبها بدموع شقيقتة الصغيرة وأمه وكلمات اللوم من صغيرته التى تجدد لديها مشهد موت والدها أمام أعينها من جديد شعرت باليتم كما لم تشعر به من قبل فكان بجانبها لحظة رحيل والدها؛ احتواها ولم يُشعِرها بالفقد ووجعه أما الآن وبرحيله بعيدًا، ماذا تبقى لها سوى دموعها الحبيسة بمقلتيها وألم تحمله بصدرها يكاد يُزهق روحها؛ ففكرة غربته هذه لم تخطر على بال أى منهم فهو رب الأسرة بعد وفاة والده ولكن أى بديل يختاره فى وضع كوضعه البائس تخرج من كليه التجارة منذ ثلاثة أعوام، سعى بعدها جاهدًا لتوفير عيشة هانئة لأمه وشقيقته؛ إلا أن الحياه لم تكيل له سوى الصفعات؛ فالبطالة لا تقتصر عليه فقط ليتذمر رافضاً؛ فهو واقعٌ بائسٌ يعيشه أبناء جيله فى تلك الحقبة المتعفنة من التاريخ ستؤرَّخ كلعنة أصابت شباب مُحيت أحلامهم كافة فى طريق المجهول لذلك فهو غير نادم على قراره بالهروب لعله يخلق لنفسه أرض ثابتة يقف عليها ليشير للحياه بتحيه مستهزئة ساخرة ويسبها قليلاً، ولا بأس أن بصق عليها أيضًا لأنه سيعود واقفاً على قمة أحلامه،لم يتردد فى البحث عن فرصة للعمل بالخارج ولا فرق لديه أى بلد سيهرب إليه.
باشر بإنهاء إجراءات السفر دون علم والدته وشقيقته بقرار رحيله فهو يعلم أن الرفض سيعيق خطته نحو الغد، قرر الرحيل وانتهى الأمر، سيغادر تاركاً خلفه كل الأشياء العالقة بقلبه؛ عائلة وذكريات ووطن. نظر للمسافرين من حوله المكدسين على رصيف الميناء بانتظار رأفه أحدهم لفتح باب الدخول إلى تلك العبارة الواقفة بشموخ فوق أمواج البحر الهائجة المرتفعة ليحتموا من برودة قارصة فصلت لحم أبدانهم عن عظامها فى ألم، وقطرات مياه مالحة تتقاذفها قوة الرياح وارتفاع الأمواج إلى ملابسهم،لم يكن الجو ملائم للإبحار إلا أن لا فرار من الإبحار اليوم فهم يفترشون رصيف الميناء من الليلة الماضية، مرت بهم أشعة شمس الصحراء الحارقة تحرق رؤوسهم وتركت حمرة حارقة على وجوههم ويكفى ما عانوه منذ حلول الظلام، فالهواء عبث بأجسادهم حتى أمرضها ببرودته، كل منهم يحتاج إلى الراحة، تعالت أصوات بعض المحتجين لسياسة الميناء المتعنتة؛ فكل منهم مرتبط بموعد دخول إلى البلد المسافرين إليها، ومنهم من اصحطب زوجته وأولاده ومنهم شيوخ ونساء كبار السن أرهقهم الانتظار والمرض ولم يأتهم -بعد الكثير من الضجة والغضب والجلبة التى حدثت على رصيف الميناء- رد سوى الانتظار قليلاً لعل الموج يهدأ فهم لايستطيعون الإبحار إلى أن يهدأ البحر تماماً هذا أفضل للجميع.
انزوى بعيداً بجانب بعض الأغراض للمسافرين افترش صحيفة كانت معه على الأرض الباردة وألقى بجسده المجهد عليها، أخرج علبه سجائره وأشعل واحدة وهو يحاول الحفاظ على اللهب بيديه الأخرى فهو يتطاير مع حركات الرياح العابثة وأخيراً أشعلها ونفث دخانها وهو يرجوه أن يتدفق إلى جسده ليهدئ برودته قليلاً بعض الشئ نظر للصغار المحتمين بأحضان أمهاتهم ولنظرات أهاليهم الغاضبة التعيسة وأشفق على نفسه شعر بالتعاسه لفراق حضن أمه، لكن سرعان ما نفث أفكاره مع الدخان ونظر لتلك اللوحة الإعلانية الضخمة المثبتة على رصيف الميناء لهذه العبَّارة (وهم 66) تبدو أصغر من أن تحتمل هذا الكم الهائل من المسافرين، نظر فى ساعة يده فوجدها مازالت تشير إلى التاسعة مساءاً فهى منذ حوالى الساعه وهى تشير إلى التاسعة، لم يعد يشعر بمرور الوقت ولا بأطرافه هى الأخرى أغمض عينيه قليلاً راجياً عقله أن يتوقف عن بث الوعى لبعض الوقت، أصابه إرهاق مضني،لم تكف أعضاء جسده عن نشر آلامها بسرعة سم فتاك يفتك بروحه عابثاً بوجوده، أرخى عضلاته ووضع رأسه على حقيبته مستسلماً لبعض الراحة وإن كان يشوبها الصقيع القابع في قاع جمجمته، وصل النوم إلى وعيه وإلي جفونه العالقة في محجر عينيه منذ اليومين وغاب في سبات بعيدًا عن كل الأشياء، وحتي حفنة الأحلام المــعلقه بقلبه وقدر أهله المعلق برقبته كطوق أنيق يخنقه ويكبله ولكنه في النهايه يسري بدمائه، ينبض في شرايين الروح.
انسَّل إلي لاوعيه صوت ضجيج يأتي من غياهب أحلامه؛ حلم يرسم تفاصيله أمام جفونه المنشقة قليلًا عن بصمة إغلاقها وصداع يهاجمه ببرودة في أطرافه يصاحبه الوعي؛ فالعودة شيئًا فشيئًا، نظر من حوله في ذهول بعد أن تدارك موقفه واستوعب حركة المسافرين النشطه نحو العباره التي علا خوارها كثور هائج يبحث عن فريسته.
استيقظ مسرعًا وهو يتمم علي وجود أغراضه ونفض جسده ليحرك الدماء الباردة ليضخها قلبه سريعًا بدفء مرة أخري، نظر لساعته ليجدها قاربت على منتصف الليل، حمل أغراضه وجري نحو منفذ الدخول إلي العبارة وسط صفوف المسافرين. لم يكن من الصعب علي جسده الهزيل المرور بينهم بسلاسة ليصل أسرع إلي ناقلته، إلي أرض الأحلام، سيغوص بأموالها قبل أن تغوص ملامحه في تجاعيدها،لم يعد يفصله عن أول وطأة في مشواره نحو الأموال سوى شخصين أمامه ينتظروا مراجعة الأوراق اللازمة مع الشخص المسئول ويلوح من خلفه صفوف أخرى من المسافرين لينظم دخولهم إلى أعلى العبَّارة وأماكن حجزهم المخصصة مسئول آخر.
توجَّه إلى مكانه المخصص الذى لم يكن من الصعب توقعه، نظر لمبلغ التذكرة الذى تذوق مرارته حتى حصل عليه فكان لابأس بحجزه بسطح العبارة وليكن الأمر، فلن تقتله البرودة على أى حال، اتخذ مكانه القريب من دورة المياه ليس بالمكان المناسب لجلسة آدميه إلا أنه لا يجد على ذلك السطح سواها ليحتمى من ما هو قادم، وضع حقيبته وجلس فوقها بهدوء وسند ظهره إلى الحائط خلفه، أخرج صورة صغيرة لأمه وشقيقته وضعها خلفية لواجهة هاتفه المحمول وعينيه يملئوها الانتصار، أخبرهم بهمساته المشتعلة حماساً وإن كانت خافتة بأنه عائد لا محالة، سيعود ليزف صغيرته إلى عريسها يوماً ما سيتوجها إمبراطورة بحفل عرس أسطوري وأغراض زفافها ستكون من أرقى محلات الماركات العالمية سيصطحب أمه فى رحلة إلى بيت الله الحرام ويأتى لها بخدم يُريحوها من أعمال المنزل الشاقة، سيزين ذراعيها التى طالما حملته بالمشغولات الذهبية، سترتدى الملابس الحريرية، وتنعم فى الرفاهية، نظر إلى البحر على طول مرمي البصر ولمعان القمر المنعكس على مائِه فى تلك الليله وابتهجت سرائره.
أطلقت العبَّارة أبواقها صادحة عالية كأنما تعلن عن رحلتها التى بدأت للتو تحركت فى بطء يزداد فى سرعة رتيبه وتزداد معها سرعة الرياح أغمض جفونه تاركاً للنوم اجتياز خطوط اللا رجعة ونام كطفل اطمئن لوجود لُعبتة الصغيرة بين يديه، احتضنها فى أمان تام وغفى غير مبالٍ بشئ، برز صوت أحدهم فى صدر العبارة وهو يؤذن لصلاة الفجر، صحا نشطاً وهو ينظر حوله لجموع المصلين المجتمعة فى انتظار إقامه الصلاة ولسيول الماء المتدفقة من خارج دورة المياه لتغرق أرض السفينه غير عابئة بمن افترشوا الممرات لينالوا بعض الراحه المحرومين منها، نهض مسرعاً حاملاً حقيبته وبعض من أغراضه إلى امرأه عجوز بدا على وجهها السماحة والأمانة، طلب منها بأدب أن يترك معها أغراضه حتى يذهب إلى الصلاة، ابتسمت فى مودة مرحبة بطلبه بكل سرور، ذهب مسرعاً ليلحلق بصفوف المصلين توهم للحظات بأنه لن يلحق بصفوفهم فأسرع فى الوضوء، كان يغلل الماء بين أصابع قدمه عندما أتاه صوت انفجار قوى فتك بعضله قلبه فى دقيقة واحدة، وصوت الشهادة يدوي من حناجر المسافرين، وحالة من الكر والفر وتدافع شديد، كل منهم يريد الهروب من القدر المحتوم، صرخات النساء، وبكاء الاطفال، وهلع الجميع، جرى ولم يعلم ماذا يحدث من الأساس، وما سر هذا الانفجار، جرى مع من جروا غير عابئين بأحد، لايرى غير روحه لعله يبتعد عن الموت قليلاً وكل منهم ينجو بروحه بعيداً يسعى لأن يجد طوق نجاه يحمله إلى بر أمان، بحث فى كل أرجاء تلك العبارة الغارقة بعد شئ ليس بالكثير لم يجد طوق يحتمى به من مياه البحر الباطشة، لم يجد سوى الرعب المشتعل بدمائة السائله لايعلم من أى جرح وما الذى جرحه من الأساس!
جرى ولكن إلى أين؟ فكل الطرق تؤدي إلى نهاية واحدة. توقف فأين الهروب من قدره؟ احتمى من جيوش المهرولين والصارخين أمام أبواب الخروج، صارخين بطاقم السفينة أن ينجدهم، أين قوارب النجاة؟ أين أطواقها؟ ولكن لا شئ على الإطلاق، مالت العبارة إلى الجانب الأيمن وبدأت فى الغرق تدريجيًا، صرخوا جميعًا متوجهين إلى الجانب الأيسر متشبثين بأيادى بعضهم البعض أغمضوا جفونهم وهم يشعرون بالهبوط المضني المزلزل المؤلم، حقاً هناك أم تصرخ انجدوا ابنى الرضيع، لن يحتمل بروده الماء وآخر يحمل أولاده فوق كتفيه وآخرون تشبثوا بأمهم العجوز التى تردد آيات القرءان الكريم وشباب يبكي رعبًا على أهله الضائعين من بعده، يصرخ يارب ويردد من خلفه الجميع يااارب من لنا سواك تنقذ أرواحنا إنْ لم يقتلهم الغرق ستقضي عليهم المياه الباردة ستبعثر أشلائهم أسماك القرش والحيتان ستأكلهم الأسماك حتى تُشبع بطونها وسيكون قاع البحر مقبرتهم الجماعية، احتوتهم المياه البارده فى صرخات غرق البعض (صرخات مكتومة متقطعة تكتمها المياة الداخلة في أفواه الغارقين) مع السفينه المختفيه من سطح الماء على الفور، والبعض حاول جاهداً التمسك بما استطاع إليه سبيلا، أما بطلنا هو فلم يجد سوى تلك القطعه من الخشب الكافيه لحمل جسده لبعض الوقت ليس بالكثير، انتهى كل شئ مع ارتفاع خيوط الشمس الزهيدة فى سمائها وحل الصمت، سكت الجميع عن الصراخ، مات الكثير وتوقف الصخب، وبقي هو بمفرده على بُعد من جثامين طفى بعضها والبعض الآخر غاص إلى القاع تسحبه الرياح وشدة الأمواج بعيداً وبعيداً،لم تعد تتحمله تلك القطعه الخشبية، ولم يعد يتحمل اختلاجات جسده، تهتكت مُـنجدته السابحة به فوق مياه البحر المالحة حاول أن يتمسك بشئ إلا أنه لا شئ هنا لا شئ سوى المياه.
تشبث بالمياه من المياه تشنج جسده فى رعب ولاحت أمام عينه وصية أمه أن يعود سالماً ودموع صغيرته قبل الوداع، لاح أمام عينه أحلامه الوهمية وهى تنهار شيئاً فشيء، علم أن للحياه ترتيبات أخرى، أدرك الآن أن أحلامنا قد تكون وهماً، أدرك بعد فوات الأوان أن للغربة ضريبة قد تكون الموت بلا هوية أن لايعود على الإطلاق حتى كجثة غطسة مسلمةً الروح لخالقها، مطلقًا لأول مرة كلمات الشهادة التى تخللها الماء وهو يغمر فمه سالكاً طريقه إلى رئتيه ليغمرها بالماء فى الحال، شهق، لم يقدر على الزفير، لم يتسطع ترك آخر ذره اكسجين، انفجرت رئتيه بالدماء التى تسربت إلى روحه.
تشنج جسده حتى توقف تماماً وارتخت عضلاته تدريجياً وشعر بدفء الموت يسري بأطرافه الغارقة، حتى هدأ كل شئ تمامًا، وسُحب إلى قاع مظلم اختفى منه الضوء يمتلئ بالضجيج الهادئ ليستيقظ فى فزع ورعشة أطراف، ينظر من حوله فى وجوه المسافرين برعب وهم يستعدون للدخول إلى العبارة، نظر أمامه ليجد لوحة العبَّارة الغارقه بكابوسه تقف فى واجهتها الإعلانية (وهم 66) بخبث ودهاء، حمل حقيبته وجرى بعيداً عائداً من حيث أتى، لن يغامر بحياته، لن يتخلى عن حضن أمه، عن بسمة شقيقته، لن يتخلى عن حياته مقابل شئ بيد الله، هرب من وهم، ليست العبارة إنما؛ وهم الرحيل عن أرضه، عن أهله، عن كل الاشياء القليلة التى ينعم بها، عن نعمة روحه ووجوده على تلك الحياة، وبقيت له ذكرى كابوس مرعب كان مجرد (وهم).