محمد منصور محفوظ

قصص و روايات

أشلاء ذكرى

وُلدنا في نفس الليلة في بناية ذات ستة طوابق يفصلها عن النيل شارع رشيق متعرج تحفه أشجار الأكاسيا من ناحية الكورنيش و تتوسطه أشجار الفيكس في أحواض ضيقة تفصل بين اتجاهيه .. وُلدنا لأمين صديقتين تعملان مشرفتين بالشئون الاجتماعية ، و لأبوين يعمل أحدهما موظفا بالري و الآخر مدرسا إعداديا .. وُلدنا في ساعتين متعاقبتين في ليلة شديدة المطر بمطلع عام حزين تلا عام انكسار و نكبة.
كنا بكرين ، اسبقه في الميلاد بساعة ، أسماني أبي "عمر" وأسماه أبوه "عمرواً" ، تآخينا في الرضاعة ، و تلازمنا في كل شيء. حدثتني أمي أن آخر ما لفظه لسان جدي قبيل رحيله عشية وفاة عبد الناصر وهو يحتضنني: "رب رحماك بأبناء الحزن" ، إلا أن أبي صاح منتشيا في يوم أذكر تفاصيل فرحه جيدا و كنا نخطو للتو في عامنا الأول بالدراسة الإبتدائية: " ولَت أيام الحزن ، و أتت أيام النصر ، أنتم أبناء النصر و الفرح".
تبدل الحال و انفتحت نافذة الدنيا و تفتحت معها مداركنا ، جمعتنا أيام الدراسة و ليالي اللهو و المرح .. جمعتنا أمسيات العائلة في ليالي الشتاء الطويلة و ليالي الصيف الصاخبة ، صلوات العشاء و الجمع و التراويح ، صلاة العيد و ملابسه الجديدة ، العيدية و بائعو الحلوي و بنادق الرش و المراجيح ، الحناطير و بائعو الترمس و نزهة الكورنيش ، الشوارع الخلفية و سمر الصبا و مشاجراته البريئة ، الساحات الضيقة حيث تقاذفت أرجلنا الكرة و غمرنا العرق حتى تبللت له ملابسنا ، بنات الجيران و زميلات الدراسة ، تفتح براعم الحب و الجنس لرؤية صدر ناهد أو ردف مستدير ، رمال البحر و أمواجه المشبعة برائحة اليود و كرة الراكت على شواطئ رأس البر و ميامي ، أحاديث الأبوين و جدالهما عن عبد الناصر و السادات و كامب ديفد و الإخوان المسلمين ، خلافاتهما و نقارهما الحميم المستديم الذي فتح لنا عوالم جديدة ، خلفية الحياة التي يملأها آذان محمد رفعت و مصطفى اسماعيل ، ابتهالات طوبار و النقشبندي ، تراتيل المنشاوي و الحصري ، برامج الإذاعة و نشرات الأخبار ، أغاني أم كلثوم المنبعثة من المقاهي .. جمعتنا كل هذه الأشياء ، عشناها سويا ، رسمت شخصيتينا و انصهرنا في بوتقتها و تعطرنا برحيقها.
كان أكتوبر شهرا فاصلا في حياتنا .. شهر نصر و اغتيال و فراق .. تزامن النصر مع بدايتنا الدراسية و تزامن الاغتيال مع فراقنا الطويل. مع ضيق الحال ظل أبي يسعى ليظفر بإعارة لسنوات ثلاث أو أربع ببلاد النفط ينصلح بها حالنا فنشتري أرضا و سيارة و ندخر رصيد بالبنك لتأمين المستقبل ضد نوائب الدهر، حتى أتاه اليقين ، صدر القرار بإعارته للعمل مدرسا بالكويت ، لم يكن لعمي جلال والد عمرو أن يظفر بواحدة كتلك ، فلا زراعة ببلاد الخليج يستعيرون من أجلها مفتشي ري .. كانت أقسى الأوقات على نفسي يوم علمت أني مسافر مع أمي للحاق بأبي بعد سفره بشهور قليلة عقب حادثة اغتيال السادات ، أدركت ساعتها أني لن أرى عمروا ثانية إلا في أجازة سنوية لشهر واحد ، لم يكن الأمر سهلا على كلينا ، ظل عمرو واجما حزينا طيلة شهرين قبل سفرنا ، قضيتهما أنا في غضب و شجار مع أمي كي تثني أبي عن عزمه ليعود و نبقى جميعا بمصر ، كان لديها رد واحد: أبوك مش مآمن يسيبنا لوحدنا خصوصا بعد اللي حصل ، مش عارفين البلد رايحة لفين مع الراجل الجديد اللي على رأي أبوك عامل زي المية الساقعة ..لا لون و لا طعم و لا ريحة. توسلت خالتي "عنايات" أم عمرو لأمي كي تتركني معهم فترة الدراسة على أن أسافر لأقضي فترة الصيف برفقتهم في الخليج ، اعتذرت أمي متعللة بأنها لا تستطيع أن تفصل بيني و بين أختي الصغيرة.
سافرت لبلاد النفط مرغما ، قضيت شهورا مكتئبا و رافضا الحياة بكافة صورها و أشكالها ، لم أصاحب أحدا و لم استجب لمحاولات أبوي لإخراجي من تلك الحالة. بمرور الوقت خارت قواي و ضعفت مقاومتي ، فبدأت أستجيب شيئا فشيئا. كان بقاؤنا لعامين متصلين دون أجازة عاملا مؤثرا في تأقلمي مع الحياة الجديدة ، فصار لنا أصدقاء جدد من جنسيات أخرى ، و صار لي من بينهم حبيبة ، فسهل لي ذلك التكيف و الاستسلام.
انقطعت أخبار عمرو و أهله بعد سفرنا بعامين حين انتقل أبوه للعمل بهندسة الري بمنية النصر. فتُر الحنين و استمرأت الأنفس رغد العيش ، فكانت السيارة الكابريس و مكيفات الهواء و سهولة الحياة و ترفها ندا قويا تنهزم أمامه بالضربة القاضية و من أولى الجولات عاطفة و حنين لوطن تزدحم شوارعه يوما بعد يوم و يزداد أهله فقرا و تنتشر العشوائية فيه انتشار النار في الهشيم.
خطة الأعوام الأربعة استبدلت بخطة للبقاء قدر الاستطاعة ، فبقيت حتى أتممت دراستي الثانوية ، حينها أرسلني أبي إلى مصر للدراسة الجامعية بتجارة الإسكندرية حيث لم يكن هناك بديل متاح للتعليم الجامعي بالخليج. عدت و عاودتني ذكريات الطفولة و قفز عمرو من مخزن تلك الذكريات لمسرح الأحداث من جديد ، سألت أبي في إحدى المكالمات التليفونية: تعرف فين ممكن ألاقي عم "جلال" و عيلته؟ عايز أشوف عمرو. فأجابني : يااااااه .. الله أعلم يا ابني ، أنا آخر حاجة اعرفها انهم قاعدين في منية النصر .. الأيام تلاهي يا عمر. يبدو أن نيتي لم تكن مصحوبة بعزم صادق ، فلم أبذل جهدا في البحث عنه و إن كنت شئت لاستطعت ، لكن "الدنيا تلاهي".
توسط لي أبي فور تخرجي فعملت بإحدى شركات المقاولات الكبرى بالكويت ، و عدت لأعيش في كنف أهلي مرة أخرى و لأنعم بحياة الدعة و النعيم ، فازداد وزني و انتفخت وجنتاي و برز لي كرش لطيف لم أقاوم ظهوره.
في صبيحة يوم قائظ أفقنا على أصوات دوي و حركة غير طبيعية بالشوارع لمدرعات و عسكر ، غزت العراق الكويت و دخلت قواتها في ساعات قليلة إلى الأحياء و اتخذت لها مستقرات و ثكنات. مرت أيام عصيبة ، طالبت أمي خلالها أبي بالعودة لمصر لكنه رفض متعللا بأن الموت مدركنا و لو كنا في بروج مشيدة و بأن العمر واحد و الرب واحد .. حديث أبي ظاهره يقين إيماني و باطنه إيمان مادي. كعادتها الأيام تنقضي ، ومثلما الأحوال تتبدل ، طردت قوات التحالف جيش العراق و حررت الأرض و عادت الحياة لطبيعتها ، و رجعنا لحياتنا ذات النمط الاستهلاكي و الرفاهية المترفة.
تزوجت من إحدى رفيقات الغربة المصريات ، بارك أهلي الزواج طالما سأظل إلى جوارهم ، و زاد من مباركتهم ذلك الزواج أنه كان صفقة رابحة حيث خطب أخو زوجتي الطبيب أختي و ضمن بذلك أبواي أن يظل الجمع متلاحما.
انقضت خمس عشرة سنة على زواجي و صارت ابنتي الكبرى "سارة" على مشارف سن البلوغ. كنت أجلس إلى أبي و أمي حين أتتني سارة بإيعاز من أمها بعلبة مخملية صغيرة و طبعت قبلة رقيقة على خدي مبادرة: هابي بيرث داي يا أحلى بابي. رددت بابتسامة و بادلتها القبلات ، حينها تنهدت أمي و في ابتسامة ملؤها الرضا قالت: طولة العمر يا حبيبي ، عقبال 100 سنة. كلما مر يوم مولدي تذكرت عمروا ، مثلما تذكرته في تلك اللحظة فسألت أمي و نظرات عيني تعكس حنينا شجيا:
- فاكرة عمرو يا ماما؟
- طبعا يا ابني .. كانوا ناس طيبين و الله .. (ثم موجهة حديثها لسارة) عمرو ده راضع على أبوكي يا سارة و ابوكي كمان راضع عليه .. يعني الاتنين اخوات في الرضاعة
مع مطلع الشتاء سافرت إلى مصر مصطحبا أبي لإجراء فحوصات بمركز الكلى بالمنصورة ، حيث رتب لنا الموعد أحد أخوالي. في اليوم التالي لوصولنا ، أخبرنا خالي بأن "جلال الظايط" مات منذ أسبوع ، و لا يزال ابنه عمرو يتلقى العزاء بشقته بميت غمر .. بيتنا القديم. توجهنا أنا و أبي لأداء واجب العزاء ، كانت المرة الأولى التي أزور فيه مسقط رأسي و منجم ذكريات الطفولة منذ هجرناه لما يزيد عن ربع قرن من الزمان ، و هجرنا معه المدينة كلها.. هل أرى عمروا أخيرا بعد كل هذه السنين الطويلة؟ و أين ؟ بل و متى؟ في يوم حزين كهذا اليوم ؟!
عمي جلال .. رحمة الله عليه ، صورته في مخيلتي لم تزل كما تركته منذ ثلاثين عاما ، رجلا حييا طيب القلب ، بشوش الوجه ، لا يعرف الغضب إليه طريقا ، لكم أحب أبي و بكاه لحظة الفراق ، ترى كيف تداولته الأيام حتى أسلمته للحظة الوداع الأخير..؟! و ماذا عن عمرو؟ صورتي الطاهرة البريئة ، صديق المهد و الطفولة ، توأمي الذي لم تلده أمي ، كم أشتاق إليه و كم أخشى لحظة اللقاء.
انعطفت سيارة خالي الكورية الصنع من الطريق السريع و دخلت بنا إلى شوارع وعرة ملأى بالمطبات ، الغبار يملأ الهواء حولنا و يصبغ جدران المباني التي بدت أكثر حزنا مما نحن عليه بصبغة رمادية قاتمة ، أتذكر شيئا من تلك المعالم .. مبنى المطافيء ، مسجد سيدي يونس ، منبت شارع الصاغة ، لكن ألم يكن بتلك البناية دكان عم قشقش بائع الفول؟ و ألم يكن ما تلاها خلاءا حتى بيتنا؟ بلى .. إذا فمتى نبتت تلك الحوانيت ذوات الألوان الفجة و الأسماء الممسوخة؟ آه و نص ، تري شيك ، و ميسد كول لإكسسوارات الموبايل .. ألجمتني الصاعقة حين وصلنا لبيتنا القديم ، بناية عريضة يطل القبح من كل جنباتها ، البلكونات مدججة بأطبق الاستقبال بمقاسات متباينة ، ألوان الشبابيك ما بين أصفر و بني و أزرق و أخضر ، بعضها خشبي و الآخر زجاجي قاتم ، حتى الباب اتخذت العناكب من زخارفه أوكارا ، كتابات على الجدار المجاور للباب "شلة الرعب" ، "أوعى وشك" ، "الأهلي فوق الجميع" ، "كلنا خالد سعيد"
ما بين ذهول و نفور و أسى دلفنا من الباب و صعدنا السلم حتى و صلنا للدور الخامس حيث شقة عمي جلال ، فتحت لنا الباب امرأة ثلاثينية معصوبة الرأس ترتدي عباءة منزلية رثة و تحمل على صدرها طفلا رضيعا
- مساء الخير ، عمرو موجود؟
- و عليكو السلام .. نقولوا مين ؟
- قولي له عمك "مختار زيدان" و ابنه عمر
منادية من مكانها ، نداءا انتفض له الطفل الملقى على صدرها المتهدل: يا عمرو .. ناس عايزينك .. لا مؤاخذة يا بهوات
تركتنا و دخلت .. بعد لحظات قليلة أتانا عمرو .. وجها هرما تملأه التجاعيد ، بواقي شعر أشيب منحسر إلى جانبي الرأس ، نظرات جامدة باهتة بلا لون تصدر من مقلتين انطفىء بريقهما .. لو لم أكن أنتظر قدومه لما عرفته .. لحظات وجوم تفحص خلالها كل منا الآخر ، أعقبتها ابتسامة حزينة فاترة تذكرته بها ، فيم بقيت أنا لا أدري أفي ذهول أم أسى أم هي رغبة في عدم تصديق ما أرى .. اخترق أبي جدار الصمت:
- البقية في حياتك يا عمرو (مادا يده إليه) .. شد حيلك يا ابني (جاذبا إيا ه لعناق أبوي دافيء)
- ازيك يا عم مختار
- ازيك يا حبيبي .. ازيك
بعد سلام رسمي بيننا باليد دون عناق ، دلفنا جميعا للداخل ، أجلسنا عمرو بالغرفة التي كانت فيما سبق غرفة نوم أبويه ، و التي يملأها الأن أثاث متواضع تغلب عليه العشوائية و الذوق الرديء و لا تنتمي قطعه لفصيل واحد .. استأذن عمرو لدقائق لم أتبادل خلالها كلمة مع أبي ، عاد و بصحبته المرأة التي فتحت لنا الباب ، قدمها إلينا : أماني مراتي .. ده يا أماني عم مختار جارنا اللي كان المرحوم دايما يجيب في سيرته ، و ده ابنه عمر
رد أبي سريعا: ابنه بس؟! ده أخوه كمان يا بنتي ، الاتنين مواليد نفس اليوم و نفس الساعة .. و اخوات في الرضاعة كمان
أماني: ما انا عارفة يا عمي .. عم جلال الله يرحمه كان دايما يجيب سيرتكم بكل خير .. يا أهلا وسهلا .. تشربوا ايه شاي و الا قهوة؟
أبي: لا يا بنتي ماتتعبيش نفسك مالوش لازمة
لم أستطع مقاومة فضولي لفتح النافذة المطلة على النيل ، فهممت بفتحها مثلما اعتدت أيام الطفولة دونما استئذان .. غابات من الأسمنت تملأ الضفة الغربية المقابلة .. انحسرت المياه لأقل من نصف ما كانت عليه سابقا و حل محلها تلك البنايات القبيحة .. شاخ النهر و همدت أمواجه و صارت ضفته راكدة ضحلة ، اختفى عمقه المنحدر في الأفق البعيد
- ازيك يا عمر
دون أن ألتفت ناحية عمرو الذي جاورني بموقفي من النافذة :
- ايه اللي حصل يا عمرو؟
- حصل كتير يا صاحبي
- أنا مش قادر اصدق عيني .. ايه اللي حصل للبلد؟!
- لأ صدق .. حصل لها اللي حصل لنا
غادرنا المنزل لا أدري بعد ساعة أو ساعتين تبادل خلالها أبي و عمرو حديثا متقطعا علمت منه أن عمروا تخرج من كلية الآداب و عمل بعد فترة موظفا بقصر ثقافة نعمان عاشور بعد أن ساق أبوه طوب الأرض لكي يوظفه بميت غمر حتى يكن قريبا من شقته القديمة ذات الإيجار البخس ، تزوج من فتاة بنت ناس طيبين و أنجب طفلا واحدا لم يكمل بعد عامه الأول .. لامني أبي بكلمات وديعة : انت مش ملاحظ انك ما عزيتش الراجل ؟
- نعم؟
- يعني ما قلتلوش حتى البقية في حياتك .. انت ناسي اننا كنا جايين نعزي يا ابني
- آه .. صحيح .. كنا جايين نعزي
الله يرحمك يا عم جلال و يرحم أيامك.
انقضت المهمة و عدنا إلى حيث أتينا ، يوم فليلة فأيام فليال ، رجعنا ندور في فلك الأيام الطويلة ، وأضحى عم جلال و أيامه و ولده المدعو عمرو أشلاء ذكرى سقطت ببئر سحيق.

اضيف بتاريخ: Tuesday, January 22nd, 2013 في 05:35

كلمات مجلة أدب: ,

تواصل مع المؤلف

رسالتك:
اسمك المستعار:

بريدك الالكتروني:

ادخل حاصل جمع 2 + 9 بالاسفل:
 

شارك بالتعليق الآن